المقدمة
هناك بعض
الشخصيات في التاريخ الإنساني تعرف جيداً كيف تحول اللحظة التاريخية إلى موعد مع
التاريخ لأسمائها ولشعوبها وهي بذلك تحقق معادلة الإرتقاء بالأوطان والشعوب في
سلالم الارتفاع الاجتماعي والاقتصادي، فهي بذلك أيضاً تصنع التاريخ وتكتب أسماءها
بخيوط من ذهب على صفحاته.
هذه المقدمة الهادئة .. هي المحصلة التي يمكن التوصل إليها في ختام القراءة
العميقة لمسار المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم
رحمه الله وطيب الله ثراه.
الشيخ راشد – رحمه الله – نوع من تلك القيادات التي تعتمد البساطة أسلوباً في
الحياة وفي الإدارة في الحوار إلى المواطنين. فسموه لم يبتعد يوماً عن هذا الأسلوب
المتسامي في الاستماع إلى الشأن العام والتعامل مع مشكلاته، وهذا ما أسس لعلاقة حب
راقية ودافقة جمعت سموه بجميع مواطنيه، ذلك لأن الرجل مثلما كان دائم فتح الباب
لمواطنيه كان دائماً فاتحاً قلبه وصدره لمشاكلهم وقراءة واقعهم اليومي.
هذا الأسلوب في الإدارة اليومية يمكن اعتباره منهجاً كاملاً سارت عليه دبي طيلة
حكم الفقيد سمو الشيخ
إن سمو الشيخ راشد سيظل إحدى
العلامات الفارقة في التاريخ العربي القيادي الحديث تماماً مثلما سيظل اسماً
يتعالى في تاريخ دولة الإمارات، وعلوه يصنع من نور ذلك لأن رحلة دبي باتجاه التطور
والازدهار ترتبط بعلاقة روحية خالصة بين كل حبة رمل على أرض الإمارة وروح سموه –
عليه رحمة الله.
مولده ونشأته
نشأ الشيخ
راشد بن سعيد آل مكتوم في كنف والده صاحب السمو الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم الذي
اشتهر بالورع والتقوى وسمو الأخلاق، وترعرع في حضن والدته المرحومة الشيخة حصة بنت
المر التي كانت لها مكانة خاصة في نفوس المواطنين لما اتصفت به من قوة في الشخصية
والإرادة، وهي صفات ورثها عنها ابنها راشد وتأثر بها.
كانت دبي حينما رأى راشد النور لأول مرة، لا تزال في حالة حداد على المغفور له
الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم الذي تولى مقاليد الحكم في الإمارة في الفترة من عام
1906 إلى 1912 كانت فيها دبي تعتمد بشكل كبير على تجارة اللؤلؤ كمصدر أساسي للدخل.
وفي العام الذي ولد فيه راشد تسلم أبوه الشيخ سعيد بن مكتوم زمام الأمور في دبي.
وطوال فترة حكمه التي امتدت حتى عام 1958 أدار الشيخ سعيد شؤون الإمارة باعتماده
سياسة الدبلوماسية الناعمة بدلاً من أخذ الناس بالشدة والبطش، فقد عرف عن الشيخ
سعيد تحليه بالبساطة وأنه كان رجلاً متديناً، الشيء الذي جعله محبوباً لدى الناس،
وكان بساطته تتجلى في إيثاره الواضع للأشياء البسيطة شأنه في ذلك شأن البدو من
رعيته، وكان عاشقاً لرياضة الصيد في صحراء دبي.
وهكذا وجد الشيخ سعيد نفسه بعد توليه سدة الحكم في الإمارة إزاء تحديات ومسؤوليات
جديدة في وقت كانت دبي تنتعش كمركز تجاري، فانكب على تلك المسؤوليات انكباباً. أما
الشيخ راشد الصغير فقد كانت أمه الشيخة حصة تهتم بقضاء أطول وقت ممكن معه فكان
تأثيرها عليه كبيراً.
كانت علامات الذكاء تشع من عيني الشيخ راشد وهو بعد طفل يافع، وبدا ذلك جلياً من
خلال ولعه بطرح الأسئلة على الكبار الذين أحاطوا به وبدت إمارات المسؤولية واضحة
على شخصية الشيخ راشد منذ طفولته المبكرة، فهو لم يكن ميالاً للانغماس في اللعب
واللهو كغيره من رفاقه الأطفال، ولعل تلك النشأة الجادة هي التي أضفت على شخصيته
عندما كبر روح المثابرة والجدية.
وفي عام 1916 أنجبت الشيخة حصة بنت المر طفلاً آخر هو الشيخ خليفة بن سعيد ولم يكن
الشيخ راشد حينها قد تجاوز الرابعة من عمره، فكان أن وجد راشد في أخيه الصغير خير
رفيق فمنحه كل حبه ورعايته، وترعرعا معاً في كنف والدين أسبغا عليهما كل حنان
وعطف، وتكفلاهما بالتربية كأحسن ما تكون التربية.
ومن عجب أن الشيخ راشد كان
يبدي، رغم صغر سنه شغفاً للإستماع لما يدور من أحاديث في مجلس أبيه الحاكم، وكان
مواظباً على الجلوس بجانب أبيه يصغى السمع للحوارات والآراء المختلفة دون ان يبدر
منه ما يدل على الملل أو الضجر، فكانت تلك المجالس أشبه بالدورات التدريبية للفتى
اليافع إذ تعلم منها الصبر وطول الأناة وبعد النظر وكثيراً من المعرفة.
ولما بلغ الشيخ راشد سن التعليم ألحقه والده بالكتاتيب إذ كانت تلك هي معاهد
الدراسة الوحيدة المتوفرة في المنطقة آنذاك في وقت لم يكن فيه وجود لمدارس
نموذجية، فتعلم في تلك الكتاتيب ما شاء له ان يتعلم من علوم الفقه واللغة العربية.
ثم أرسل الشيخ سعيد ابنه راشد لتلقي التعليم النظامي في مدرسة الأحمدية في ديرة
حيث نهل العمل من خيرة المعلمين في ذلك الأوان، فتفقه في العلوم الدينية إلى جانب
علوم اللغة العربية والتاريخ والحساب والجغرافيا. وكان الشيخ راشد أصغر تلاميذ هذا
المدرسة والتي كانت المدرسة الوحيدة في دبي.
نشأ الشيخ راشد محباً لرياضة الصيد بالصقور والقنص تماماً مثل والده الشيخ سعيد،
وقد جعلت هذه الهواية الشيخ راشد يزداد قرباً من والده بقية عمره، وقد تعلم الشيخ
راشد من تلك الهواية الإستيقاظ مبكراً، وركوب الصعاب فلم يكن لحياة الدعة والراحة
أي أثر عليه، وكان هو وأصدقاؤه يخرجون مبكراً إلى الصحراء بعيداً عن المدينة
لتدريب الطيور استعداداً لفصل الشتاء ولرحلات القنص التي أصبحت من الأنشطة السنوية
الرئيسية بالنسبة لآل مكتوم.
وتهيأت للشيخ راشد في تلك الرحلات الفرصة لمرافقة والده الحاكم حيث اكتسب منه بعض
الصفات التي ساعدته فيما بع في إدارة شؤون الإمارة.
ولم ينقض العالم 1924 إلا وكان الشيخ راشد شخصية دائمة الحضور في مجلس أبيه الذي
كان يضم علية القوم وأهل السياسة والإقتصاد. وفي تلك البيئة بدأت شخصية الشيخ راشد
الرجل تتشكل حيث ساعده ذكاؤه الوقاد وحرصه الشديد على الإلمام بأمور السياسة
ودهاليزها، ونما لديه حس تجاري كبير وعليه لم يكن غريباً ان يعرف الشيخ راشد لدى
الناس بـ (الشاب الجاد) لم اتسم به من صراحة وجدية في التعامل مع كثير من القضايا
حتى انه كان يتبنى مواقف وصفت حينها بأنها راديكالية.
وقد جعله حسه التجاري الطاغي يبرع في مزاولة التجارة كما سيبرع بعدها في السياسة
على نحو ما سنرى لاحقاً. واستطاع الشيخ راشد بحنكته وحسه التجاري ان يصبح ثرياً
وهو بعد في منتصف العشرينيات من عمره.
ثم كان ان ضرب المنطقة كساد عظيم أدى إلى انهيار اقتصاد ساحل الإمارات المتصالحة
بسبب ما أصاب تجارة اللؤلؤ الطبيعي من بوار إثر ظهور اللؤلؤ الصناعي.
ولما اشتدت الأزمة الإقتصادية واستحكمت حلقاتها على البلاد لم يجد الشيخ سعيد
مناصاً من ان يوكل لأبنه راشد مسؤولية التعامل مع الأزمة دون ان يبخل عليه بالنصح
والمشورة متى لزم الأمر. وفي حقيقة الأمر فإن تدهور تجارة اللؤلؤ منذ ثلاثينيات
القرن الماضي تسببت في مشاكل لا حصر لها لمن يعملون في تلك التجارة وخصوصاً ربابنة
السفن والغواصين الذين غرقوا في الديون والمشاكل.
وقد تجلت براعة الشيخ راشد في إدارة الأزمة في موقفه الثابت إزاء الفوضى التي كانت
تظهر بين حين وآخر مع انتشار أعمال السلب والنهب في صيف عام 1938. وقد عرفت تلك
الفترة من أواخر ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بسنين القحط فهي الفترة التي
شهدت اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وبدت قدرات الشيخ راشد في إدارة شؤون الحكم أكثر ما تكون وضوحاً إبان الحصار
الإقتصادي الذي فرضه البريطانيون، الذين كانوا جزءاً من دول الحلف، على إيران التي
كانت تساند دول المحور في تلك الحرب، ولإحكام الحصار على إيران فرض البريطانيون
على دبي حظراً على استيراد وتصدير المواد الغذائية حتى لا تجد طريقها إلى ايران.
وما كان أمام الشيخ راشد في مواجهة هذا الموقف إلا ان يسعى لتوفير المواد الغذائية
الأساسية لرعاياه وبأسعار تتلاءم مع المستوى الإقتصادي للناس في ذلك الوقت، فكان
أن أدخل نظام البطاقات الذي سمح للمواطن بالحصول على حصته الشهرية من المواد
الغذائية له ولأفراد أسرته. واستعان الشيخ راشد في ذلك بأصحاب البقالات الذين
تولوا مهمة توزيع تلك المواد بموجب الحصص الشهرية المذكورة في البطاقات.
فلا غرو ان يصبح مجلس الشيخ راشد، بعد ما أبداه من حسن تدبير وإدارة للأزمات على
درجة من الأهمية لا تقل عن أهمية مجلس أبيه. وفي مجلسه ذاك ظهرت كفاءة الشيخ راشد
في اتخاذ القرار الحاسم ومقدرته على الإقناع، الأمر الذي أكسبه شعبية كبيرة خاصة
وسط شبان المدينة.
والى جانب هذه المهام، كان الشيخ راشد مؤازراً لأبيه في الشؤون السياسية الرئيسية،
وكان مناصراً للسياسة التي جعلت من دبي أكبر الأسواق في المنطقة فقد كان يردد
دوماً عبارة (ما هو مفيد للتجار، مفيد لدبي). وبفضل إدراك ووعي الشيخ راشد ومن
خلفه والده الذي ظل يؤازره، بقيت أسواق دبي مزدهرة بالرغم من حالة الكساد التي
عصفت بالمنطقة آنذاك. وقد بدأ واضحاً في الأربعينيات من القرن الماضي ان الشيخ
راشد، بالرغم من أنه لم يتول مسؤوليات الحكم رسمياً إلا بعد عقدين من تلك الفترة،
فقد كان يشارك بفاعلية في صنع القرار.
ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى كان الشيخ راشد يحظى باعتراف من داخل البلاد وخارجها
بحسبانه الدعامة الأساسية للحكم في دبي.
كان التاسع والعشرون من مارس عام 1939 تاريخاً مشهوداً في حياة الشيخ راشد، يوماً
سعيداً لدبي وأهلها إذ فيه احتفلت الإمارة كلها بزفاف ابنها الشيخ راشد إلى الشيخة
لطيفة بنت حمدان آل نهيان.
وقد حضر الإحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة شخصيات كبيرة وفدت من الدول المجاورة
وجموع غفيرة من المواطنين جاءوا ليعبروا عن فرحتهم وتهنئتهم للشيخ سعيد والشيخ
راشد.
وما لبث ان بدأت مظاهر الإنتعاش تظهر على دبي حيث وصفها الرحالة البريطاني الشهير
(ويلفريد تسيجر) أثناء رحلته الأولى لها عام 1949 بأنها مدينة مزدهرة.
ولأنه كان يؤمن بالحكمة القائلة بأن البركة في البكور، كان يوم الشيخ راشد يبدأ
باكراً حيث دأب على الإستيقاظ في الخامسة صباحاً. وبعد ان يؤدي فريضة الفجر يمتطي
صهوة جواده أو ناقته ليتابع بنفسه سير العمل في المشاريع المختلفة، وذلك دون رفقة
حرسه أو أتباعه. وواظب على هذه العادة حتى بعد ان امتلك السيارة. وبعد جولته هذه
يعود إلى منزله لتناول وجبة إفطار خفيفة ثم يتوجه إلى مركز الجمارك بالمدينة والذي
اتخذه الشيخ راشد مكتباً رسمياً لحاكم دبي حيث اعتاد الجلوس على كرسي خشبي، فكان
ذلك المظهر المتواضع وهو جالس على ذلك الكرسي أمام ضيوفه أول ما يلفت انتباه أي
زائر لمجلس الشيخ. وبعد نهار حافل بالعمل والإنصات إلى مظالم الناس ومطالبهم يعود
الشيخ راشد عند الواحدة بعد الظهر إلى منزله لتناول طعام الغداء، قبل ان يخلد إلى
قيلولة قصيرة، ثم يستأنف نشاطه عند الرابعة بتفقد المشاريع والأعمال الجارية في
المدينة. وفي المساء حين يعود إلى منزله ثانية يتهيأ الشيخ لاستقبال المواطنين
للوقوف على شكواهم في صبر وأناة. هكذا كان يقضي الشيخ راشد يومه وهو يوم كما يتضح
زاخر بالعمل الدؤوب والنشاط الفياض.
وقد عرف عن الشيخ راشد ولعه بركوب الخيل وخاصة في فترة ما بعد الظهيرة. وعن هذه
الهواية للشيخ يقول الصحفي البريطاني (جريم ويلسن) في كتابه (راشد بن سعيد آل
مكتوم الوالد والباني) إنه كان لآل مكتوم آنذاك اصطبل به عشرون حصاناً بالقرب من
حصن الفهيدي في دبي. وكان علاقة الشيخ راشد الحميمة بحصانه (الصقلاوي) حديث المدينة،
وكانت أول سيارة يقتنيها الشيخ راشد في عام 1932.
ولعل أكثر ما كان يميز الشيخ راشد في مجلسه اليومي أنه كان يحرص على الإستماع
بانتباه للمتحدثين الذين كانوا يدلون بآرائهم بحرية تامة ودون ان يقاطعهم الشيخ
راشد. ولم يكن الشيخ راشد يحب ان يحاط بمن كانوا يوافقونه الرأي طوال الوقت،
واتسمت المداولات والحوارات في ذلك المجلس بالجدية ومعالجة كل الأمور التي تهم
المواطنين وقضايا التنمية والعمران.
ووصف جريم ويلسن مجلس دبي بأنه كان تقدمياً ولعب دوراً هاماً في تعزيز التنمية في
دبي. ولم يكن الشيخ راشد ليتهاون مع المتقاعس ويجزل العطاء لكل من يثق به. ولا يظن
امرؤ ان مجلسه كان قاصراً على الخاصة من المقربين بل كان بابه مفتوحاً لعامة
الناس، فقد كانت عادة الشيخ راشد خلال شهر رمضان المبارك ان يقضي الليل كله في
مجلسه لإستقبال المواطنين حتى صلاة الفجر.
ومن مجلسه هذا كان الشيخ راشد يستقر على خطط تعمير دبي، وكان يأنس بآراء أهل
الخبرة ولا يعتد برأيه إذا رأى ان ثمة وجهة نظر أخرى هي الصحيحة فيأخذها بعين
الاعتبار.
ويتضح من ذلك ان الشيخ راشد لم يكن أبداً ديكتاتوراً يفرض على الآخرين آراءه بل
ديمقراطياً يستنير برأي الخبراء وأهل النصح ويعمل بمشورتهم إذا رأى أنها الأكثر
عملية والأجدى عند التنفيذ. ولعل من أهم أسباب نجاح ذلك المجلس هو ان الشيخ راشد
أحاط نفسه بكوكبة من الأصدقاء المخلصين والمقربين الثقاة فكانت قراراته تخرج
مدروسة بعناية، وكان مجلسه مزيجاً من مختلف الجنسيات العربية والأوروبية والهندية،
الأمر الذي أضفى على القرارات فعالية كبيرة.
وينسب جريم ويلسن في كتابه لكمال حمزة، أول مدير لبلدية دبي والتي أنشئت عام 1957،
قوله ان الشيخ راشد اعتاد ان يرسم المشروع على الرمال بعصاه، ثم يطلب من المهندسين
ان يعدوا التصميم الهندسي بناءاً على الخطوط التي يحددها على الرمال، وكان يشير
إلى المكان الذي يريد تشييد طريق ان بناية فيه، وكان المصممون يتتبعون الخطوط التي
رسمها.
وبدأت مشاريع التنمية ترى النور في إمارة دبي، وبدأ الناس يجنون ثمار التخطيط
المدروس بفضل النظرة الثاقبة للشيخ راشد الذي ما ن ينتهي من تخطيط وتنفيذ مشروع
حتى يبدأ بالعمل في مشروع جديد. وتوالت الإنجازات والتي سنتحدث عنها بشيء من
التفصيل في الأبواب التالية من هذا الكتاب.
وفي صبيحة العاشر من سبتمبر عام 1958 أسلم الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم حاكم دبي
الروح إلى بارئها بعد تدهور حالته الصحية. وما ان ذاع الخبر حتى خيم الحزن على
المدينة، وكان حزن الشيخ راشد على رحيل والده شديداً.
وبعد مراسم تشييع الراحل الشيخ سعيد رحمه الله تولى الشيخ راشد حكم إمارة دبي
رسمياً بعد ان كان طوال العقدين اللذين سبقا ذلك الساعد الأيمن لأبيه في إدارة
شؤون الحكم.
الشيخ راشد
حاكما لدبي
نظمت دبي في الرابع من أكتوبر عام 1958 حفل تنصيب لحاكمها الجديد الشيخ راشد بن
سعيد بن مكتوم آل مكتوم الذي تولى مقاليد الحكم في الإمارة بعد وفاة المغفور له
والده.
وقد حضر مراسم التنصيب حكام الإمارات الساحل المتصالحة وشيوخها والمقيم السياسي
البريطاني وعدة آلاف من المواطنين والأجانب المقيمين. وألقيت في الحفل كلمات بهذه
المناسبة عبرت عما يكنه الناس للشيخ راشد من حب وتقدير.
ووجه الشيخ راشد كلمة شكر فيها الحاضرين على مشاعرهم النبيلة وقرأها نيابة عنه
نجله الأكبر الشيخ مكتوم البالغ من العمر آنذاك خمسة عشر عاماً. وأكد الشيخ راشد
في كلمته حرص دبي على التعاون مع إمارات الساحل المتصالحة الأخرى مؤكدا لأهالي دبي
أنه سيعمل معهم من اجل تحقيق التنمية والازدهار لدبي.
ثم انصرف
الحاكم الجديد لإدارة شئون إمارته بنفس الهمة والعزم ونفاذ البصيرة الذي عرف عنه.
وما أن انقضت شهور قليلة من تسلمه زمام الأمور حتى أصدر مرسوما بتأسيس شركة
الكهرباء وأمرا ببدء العمل الفوري في إنشاء مطار دبي ولعل إصرار الشيخ راشد على
تأسيس شركة الكهرباء في وقت مبكر من اعتلائه سدة الحكم كان نابعا من إيمانه بضرورة
توفير الخدمات الأساسية لسكان دبي الذين بلغ تعدادهم حينذاك حوالي ثلاثين ألف
نسمة. وكان معظم الناس في المدينة يملكون مولدات خاصة بهم. وبالفعل تم إنشاء شركة
الكهرباء العامة في عام 1959 وحصلت دبي على أول إمداد كهربائي في عام 1961.
واستشعارا منه بأهمية هذا المرفق الحيوي كان الشيخ راشد يترأس مجلس إدارة الشركة
شخصياً.
ونقل جريم ويلسن في كتابه عن أحد المواطنين الذين كان يثق بهم الشيخ راشد قوله ان
حاكم دبي ذكر له ( ان دبي تحتاج إلى بنية أساسية للمحافظة على موقعها كعاصمة
تجارية للمنطقة، وهو أمر أصبح أكثر صعوبة خاصة مع دخول بعض دول المنطقة عصر
النفط).
إن زعيما بهذه الرؤية المتطورة والقراءة المتمعنة للواقع قادر ولا شك على قيادة
رعيته إلى مرافئ الرخاء والازدهار وهذا بالضبط ما سعى إليه الشيخ راشد واستطاع
تحقيقه في خاتمة المطاف. ومن بين أهم منشآت البينة التحتية والخدمات الأساسية التي
عمل الشيخ راشد على إقامتها مشروع توفير المياه العذبة لدبي، وقد بدأت الخطوة
الأولى في هذا المشروع بإبرام حكومة دبي اتفاقية مع قطر في عام 1959 قامت بموجبها
هذا الأخيرة بالتمويل وتزويد دبي بعدد من الخبراء للإشراف على مشروع للتنقيب عن
المياه وبدأت الشركة القطرية المشرفة على المشروع أعمال المسح الجيولوجي للتأكد من
جدوى بئر منطقة العوير وكفايتها لسد احتياجات دبي من المياه وتبين في النهاية أنها
قادرة على إرواء ظمأ دبي، وفي غضون أشهر قليلة من ظهور النتائج الإيجابية للمسح
الجيولوجي تم مد الأنابيب الأسمنتية على جناح السرعة.
ومن البديهي ان يصبح الإسكان، في غمرة المشاريع الكثيرة التي بدأ العمل بها في دبي
هاجساً يؤرق الشيخ راشد خاصة وأنه كان يدرك ضرورة استقدام عمالة وافدة للمساهمة في
تطوير المدينة في المستقبل. وحينما بدأ الطلب يزيد على السكن ارتفعت الإيجارات في
المدينة إلى الضعف، ولم يعد من ثم لدى كثير من المواطنين والوافدين القدرة على
تحمل تكلفة الإيجار العالية.
ولأن الشيخ راشد كان يؤمن بحرية السوق فإنه لم يمارس إلا بعض الضغط على أصحاب
الأملاك لكي يخفضوا الإيجارات. وكان أن وضع الشيخ راشد مسألة حل مشكلة الإسكان ضمن
أولوياته، فقام بإنشاء دائرة الأراضي والأملاك في عام 1960 وأسند رئاستها لأكبر
أنجاله وهو الشيخ مكتوم بن راشد.
وأجمع مخططو البناء على اختيار منطقتي السطوة والكرامة كموقعين مناسبين لتشييد
مساكن فيهما. وقرر الشيخ راشد إعطاء الأولوية لبناء مساكن منخفضة الإيجار، وكان
يتابع بنفسه سير العمل في هذه المشاريع.
ولم يكتف الشيخ راشد بذلك بل كان يجتمع برجال الأعمال والتجار ويحثهم على بناء
مساكن، وكان يقدم القروض لأولئك الذين كانوا بحاجة إلى تمويل لبناء مساكن وشقق
سكنية، وقام بتوزيع قطع من الأراضي في السطوة على المواطنين لاقامة مساكن عليها.
وكان لهذا النشاط الجم في قطاع الإسكان مردوده الإيجابي على حركة السيولة المالية
في السوق مما ساعد في تنشيط الاقتصاد.
ولم تكن الرعاية الصحية لشعبه بغائبة عن بال الشيخ راشد بل إنه أولاها أقصى
اهتماماته، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في حثه المواطنين على مراجعة الطبيب الزائر
بدلا من الاعتماد على الوصفات الشعبية للعلاج، فقد كان الأهالي يلجأون في السابق
إلى الطب الشعبي الذي كان يمارسه المطوعون والمداوون.
وشهد عام 1950 إقامة أول مستشفى حديث، ليس في دبي وحدها بل في كل إمارات الساحل
المتصالحة،
وأطلق عليه اسم مستشفى آل
مكتوم، وكان هذا أول مشروع يرعاه الشيخ راشد. وكان المستشفى عندما أنشئ يتسع لـ
(38) سريرا فقد وازدادت سعته لتصل إلى 106 أسرة في عام 1968، وحظى المستشفى بدعم من جميع إمارات الساحل الذين أصبحوا أعضاء في هيئة المستشفى،
وهكذا أصبح المستشفى مرفقا هاما لا يقدم الرعاية الصحية للأهالي فحسب بل بات منشأة
تجسد تطلعات أهل المنطقة لوحدة كُتب لها ان تتحقق في العام 1971 على أيدي صاحب
السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وصاحب
السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم وإخوانهما أصحاب السمو حكام الإمارات الأخرى.
وفي عام 1960 أمر الشيخ راشد بإنشاء شركة التليفون والبرق واللاسلكي جنباً إلى جنب
مع شركة كهرباء دبي، وكان يمارس إشرافا دقيقا على شركة التليفون باعتباره رئيسا
لمجلس إدارتها.
وفي خطوة تدل على حسن تدبيره وعقليته الاقتصادية أصدر الشيخ راشد في عام 1963
مرسوما بتأسيس أول بنك وطني، هو بنك دبي الوطني المحدود، برأسمال قدره مليون جنيه
إسترليني بعد ان كانت التعاملات المالية والمصرفية حكرا على المصارف الأجنبية. فقد
كانت دبي قبل مجيء المصارف الأجنبية إليها تفتقر إلى وجود مؤسسة مالية من هذا
القبيل، وكان التجار يحتفظون بأموالهم في صناديق حديدية.
وكان الشيخ راشد مدركا لذلك الواقع وموقنا بأن وجود نظام مصرفي حديث سيعزز صورة
دبي كمركز تجاري في المنطقة فسعي لجذب مصرف ذي سمعة جيدة ونجح في ذلك حيث استطاع
في 5 يناير 1954 إبرام اتفاقية مع (امبريال بانك أوف إيران) الذي عرف فيما بعد
باسم (البنك البريطاني للشرق الأوسط).
واشترط الشيخ راشد ان يدرج في الاتفاقية بند يلزم البنك البريطاني بتوظيف مواطني
دبي.
وحظي التعليم في عهد الشيخ راشد باهتمام بالغ إيمانا منه بأهمية التعليم في تحقيق
أهداف دبي في التنمية. وفي بداية فترة حكمه لم تكن المدارس النظامية قد انتشرت
وكانت (الكتاتيب) تقوم مقام المؤسسات التعليمية وقد كانت منتشرة في جميع أرجاء
المنطقة آنذاك. وكما هو معروف فان الكتاتيب كانت تركز على تدريس القرآن واللغة
العربية والحساب بشكل أساسي. ولقد أولى الشيخ راشد رعاية خاصة لمدرسة الأحمدية،
وهي أول مدرسة نظامية عرفتها دبي، وتكفل بمصاريفها منذ عام 1954 وكان يحرص على
تقديم الدعم المادي لعدد من أبناء دبي الذي التحقوا بمدارس قطر، وقام بتخصيص جزء
من قصره كمدرسة سميت بالمدرسة السعيدية.
ومع بداية عهده إفتتحت خمس مدارس هي : المدرسة السعيدية للبنين في عام 1958، ومدرسة
(خولة بنت الأزور الابتدائية للبنات ومدرسة الخنساء الابتدائية للبنات ومدرسة آل
مكتوم الابتدائية للبنين (1958/1959)، ومدرسة الشعب المتوسطة للبنين (1959/1960).
وبعد توليه رئاسة مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة في عام 1979 أكد الشيخ
راشد على اهتمام حكومته بالتعليم مشيرا إلى ان هذا الاهتمام يأتي إدراكا من
الحكومة بأهمية التنمية البشرية، وسعيا منها لبناء جيل من الكوادر الوطنية المؤهلة
علميا والقادرة على النهوض بتنمية البلاد (راجع مجموعة الخطب في ملحق الكتاب).
وفي ستينيات القرن الماضي توجه الشيخ راشد إلى القاهرة لاستجلاب مدرسين من أجل
البدء في تنفيذ برنامج تربوي واسع. ومن المواقف الدالة على بعد النظر اهتم الشيخ
راشد بتطوير التعليم المهني إدراكا منه للحاجة إلى تدريب القوى العاملة. فقد أنشئت
مدرسة تجارية في الشارقة عام 1958 وكانت تقبل طلابا من دبي وبعد ذلك بسنوات،
وتحديدا في عام 1964، افتتحت المدرسة التجارية والصناعية في دبي.
ويذكر عباس عبد الله مكي في كتابه (راشد رجل وراء نهضة دبي) أنه لما جرى تسليم
جميع شئون التعليم إلى وزارة التربية الاتحادية في عام 1972 كان عدد المدارس التي
تم بناؤها في دبي قد وصل إلى 16 مدرسة للبنين و12 مدرسة للبنات، وقفز عدد المدارس
الحكومية في بداية ثمانينات القرن العشرين إلى 55 مدرسة تضم أكثر من 27 ألف طالب
وطالبة إلى جانب 43 مدرسة خاصة تستوعب 24 ألف طالب وطالبة.
وفي عام 1962 افتتح الشيخ راشد جسر آل مكتوم الذي ربط بين بر دبي وديرة دبي وتحمل
الشيخ راشد عبء إنشاء المرافق السيادية كالدفاع والأمن والقضاء والإدارة العامة
التي لم تكن موجودة بالمعنى الفني للكلمة نظريا أو واقعيا قبل تولي الشيخ راشد حكم
الإمارة في عام 1958 وكانت شرطة دبي قد تم تشكيلها في شهر يونيو من عام 1956.
وبمقتضى مرسوم أميري صدر في أواخر الستينيات عُين الشيخ محمد بن راشد بن سعيد آل
مكتوم رئيسا للشرطة والأمن العام في دبي من أجل تطوير جهاز الشرطة وتقويته ليكون
مواكبا لحركة التعمير والبناء التي عمت الإمارة.
ولاستكمال مؤسسات العمل العام أصدر الشيخ راشد توجيهاته بتأسيس دار القضاء بمنطقة
البطين ببر دبي، وفي عام 1959 انتقلت المحاكم إلى قلعة نايف التي كانت تضم الشرطة
والسجون. كما أصدر حاكم دبي القوانين والمراسيم
الحكومية والضوابط المنظمة للعمل القضائي.
وفي عام 1971 أصدر الشيخ راشد أمره للشيخ محمد بن راش بإنشاء قوة للدفاع بإمارة
دبي. وقد تم دمج القوات المسلحة في الإمارات دمجا
اتحاديا عام 1976، وتولى الشيخ محمد بن راشد وزارة الدفاع وتغير مسمى قوة دفاع دبي
إلى مسمى المنطقة العسكرية الوسطى.
دوره في تأسيس
الإتحاد
كانت دولة
الإمارات العربية المتحدة قبل اندماجها في كيان وحدوي، تعرف في التاريخ بالإمارات
المتصالحة، وعلى الرغم من ان ذلك الاتحاد حدث بالفعل عام 1971 إلا أن ما كان يجمع
بين تلك الإمارات قبل ذلك من سمات مشتركة تمثلت في وحدة التاريخ والجغرافيا
والثقافة والعادات والتقاليد والملامح السياسية، كان ينبئ بأن الوحدة السياسية
قادمة لا محالة، ولعل أولى بذور الاتحاد غرست في سنة 1905 عندما عقد جميع حكام
إمارات الساحل المتصالحة اجتماعا لأول مرة بناءا على دعوة من الشيخ زايد بن خليفة
آل نهيان، حاكم ابوظبي آنذاك من أجل إيجاد حل للنزاعات المتعلقة بالحدود.
والحق يقال إن حلم الوحدة لم يكن قاصرا على الحكام وحدهم بل كان
يراود شعوب المنطقة أيضا، فقد مكث قاضي رأس الخيمة في ثلاثينيات القرن العشرين مدة
من الزمن في البريمي بغية الوصول إلى صيغة من الوحدة بين الإمارات إلا أن مساعيه
لم تؤت ثمارها في ذلك الحين.
ومنذ بداية الخمسينيات حاول حكام الإمارات المتصالحة إضفاء صبغة رسمية
لاجتماعاتهم، فتم تأسيس مجلس للساحل المتصالح وعقد أول اجتماع له في مارس عام 1952
وتمخض عن تلك الاجتماعات تشكيل ثلاث لجان فرعية اختصت الأولى بشئون التعليم
والثانية بشئون الصحة العامة والثالثة بالزراعة وكان على تلك اللجان ان ترفع
تقارير عن أعمالها إلى المجلس، وكانت تلك الاجتماعات التي كانت تعقد مرتين في
العام رهن رغبات الشخصيات التي كانت تحضرها ويشير كتاب (راشد بن سعيد آل مكتوم
الوالد والباني) لمؤلفه جريم ويلسن إلى ان اهتمامات ذلك المجلس تركزت كما يتبين من
اجتماع عقد في الشارقة في 17 نوفمبر 1953 – على أمور مثل عائدات النفط وتنظيم
المرور على الطرق، ووثائق السفر، ومستشفى المكتوم، وموارد المياه.
ولقد تجلت وحدة الشعور القومي في الإمارات المتصالحة حكاما وشعبا، إبان العدوان
الثلاثي على مصر عام 1956 فقد طغت المشاعر القومية على الجميع وأعربوا عن موقفهم
الحازم بالوقوف خلف الشقيقة مصر لرد العدوان الظالم عنها.
وفي عام 1959 اتفق حكام الإمارات المتصالحة بالإجماع على شراء ممهد للطرق من طراز
كاتربيلر، وعلى تأسيس وحدة طبية صغيرة في رأس الخيمة في العام التالي.
وكان الشيخ راشد على قناعة حقيقية بأن مستقبل إمارات الساحل المتصالحة سيكون أفضل
إذا ما توحدت وأمسكت هي بزمام الأمور وقد لعب حاكم دبي دورا مؤثرا في محاولته
إقناع حكام الإمارات المتصالحة وحاكمي قطر والبحرين بضرورة خلق كيان متكامل في
المنطقة فقام بتحركات واتصالات دبلوماسية مكثفة معهم وحظيت أفكار الشيخ راشد بدعم
كبير من جامعة الدول العربية، إذ كان الأمين العام المساعد للجامعة آنذاك سيد نوفل
يحبذ النموذج الذي اقترحه الشيخ راشد للكيان الجديد وقد كُرست الجهود خلال عام
1964 لقضية الاتحاد، وفي وقت متأخر من تلك السنة دعمت جامعة الدول العربية خطت
قدمت لتوحيد الإمارات المتصالحة في إطار ما أطلق عليه (الصندوق العربي) وقد عرض
الشيخ راشد خطته في تلك الفترة على بعض حكام الإمارات في اجتماعات ثنائية قبل ان
يقوم بالإعلان عنها.
وفي عام 1965 تم إنشاء صندوق
التنمية في الإمارات المتصالحة من أجل تمويل الخدمات الداخلية وهي في الغالب كانت
في مجالات الزراعة والصحة والتعليم الفني، بما في ذلك المدرسة التجارية في دبي ومن
بين المشاريع التي أنجزت كان الطريق المرصوف بين دبي ورأس الخيمة، وعمليات المسح
للتنقيب عن المياه في جميع إمارات الساحل المتصالحة، وخطط إمداد عواصم الإمارات
بالماء والكهرباء.
وتزامن مع ذلك الجهود الرامية لتأسيس إتحاد نقدي على مراحل وكانت بداية التجربة
استخدام الريال السعودي في المنطقة كلها قبل ان تبدأ البحرين بإصدار نظام نقدي خاص
بها، وعندها ظهر الدينار البحريني في المنطقة الذي استخدمته أبوظبي كذلك، في حين
أن قطر ودبي اشتركتا في تقديم ريال قطر
ودبي
والذي استخدمته بقية الإمارات المتصالحة.
ولم تقتصر
جهود الشيخ راشد لتوحيد الإمارات على الداخل فحسب بل كان يبحث هذه المسألة مع بعض
الزعماء العرب أيضا، ففي نوفمبر عام 1964 التقى حاكم دبي بالعاهل السعودي الملك
فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وبحث معه عددا من القضايا من بينها مسألة تشكيل
إتحاد بين الإمارات وقد التقى الملك فيصل فيما بعد بالشيخ زايد بن سلطان آل نهيان
الذي كان ممثلا لحاكم أبوظبي آنذاك حيث أعرب العاهل السعودي عن أمله في أن تلعب
أبوظبي دورا كاملا في تقريب إمارات الساحل المتصالحة لبعضها البعض.
وفي الشهور التالية ركز حكام الإمارات على وضع أسس جديدة لمجلسهم، وقد عقد أول
اجتماع للمجلس المجدد في مارس عام 1965م بدعوة من الشيخ راشد الذي استضاف المجلس
في قصر الضيافة بالجميرة وقد نجحت جهود كل من الشيخ راشد والشيخ زايد بن سلطان آل
نهيان، وبدعم من جامعة الدول العربية، في جمع حكام الإمارات السبع (أبوظبي ودبي
والشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة والفجيرة) بالإضافة إلى حاكمي قطر
والبحرين، وكان اجتماع تسعة قادة في نفس المكان والزمان في تلك الفترة، حيث لم تكن
فيها البنية التحتية للنقل متطورة وكان ذلك يعد إنجازا في حد ذاته.
ويعزو المؤرخون والمراقبون السياسيون في تلك الفترة نجاح مجلس الإمارات المتصالحة
في العمل بصورة أكثر حيوية إلى الجهود التي بذلها الشيخ راشد والشيخ زايد بن سلطان
آل نهيان في هذا المضمار.
وكان الشيخ راشد على دراية بالأوضاع في المنطقة بطريقة مكنته من إنجاز ما يمكن
عمله خطوة بخطوة، بدلا من التسرع في طلب المستحيل، وفي ذلك الوقت بالذات كانت
الأحداث على الساحة الدولية تتصاعد، فقد شهدت المملكة المتحدة في أواخر الستينيات
من القرن العشرين اضطرابات شديدة أسفرت عن فقدان حكومة حزب العمال تحت زعامة
هارولد ويلسون شعبيتها لأسباب إقتصادية بعد ان فرضت إجراءات تقشف لم يسبق لها مثيل
منذ الحرب العالمية الثانية وبسبب الأزمة الاقتصادية التي كانت تمر بها قررت
المملكة المتحدة في عام 1967 تخفيض نفقاتها في الخارج، وصدر بيان مقتضب عن مكتب
هارولد ويلسون في 16 يناير 1968 يعلن عن انسحاب القوات البريطانية من شرق عدن وقد
استقبلت منطقة الخليج هذا الخبر بفرح واهتمام واعتبر الشيخ راشد انسحاب بريطانيا
فرصة سانحة لتعزيز مجلس الإمارات المتصالحة، وقد قدمت بريطانيا اقتراحها بالانسحاب
مقرونا بدعوة أعضاء المجلس التسعة للعودة إلى المفاوضات بمزيد من الحماس، خاصة وان
كل قادة الإمارات كانوا يدركون أن ثروات المنطقة وضعفها العسكري يجعلها عرضة
للتدخل من قبل أي دولة كبيرة ذات نوايا غير سلمية.
وقد جاء إعلان بريطانيا الانسحاب من المنطقة في وقت بدأ فيه تدفق النفط في عدد من
إمارات الساحل المتصالحة الأمر الذي أدى إلى ازدياد الأهمية الاستراتيجية للخليج،
والى شعور حكام المنطقة بالحاجة إلى خلق تعاون بينهم لصون الأمن المشترك، وفي
فبراير 1968م مهد صاحبا السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد
آل مكتوم الطريق بإعلانهما تأسيس وحدة بين إمارتي أبوظبي ودبي من شأنها أن تؤدي
إلى الاشتراك في إدارة الشئون الخارجية والدفاع والأمن والخدمات الاجتماعية وشئون
الهجرة والجوازات وقد تم التوقيع على وثيقة الوحدة في 18 فبراير 1968 في مكان
بالقرب من منطقة غنتوت الواقعة بين أبوظبي ودبي.
وفي 25 فبراير 1968 عقد اجتماع مماثل لذلك الذي تمخض عن إنشاء مجلس الإمارات
المتصالحة قبل ثلاث سنوات، وجه فيه الشيخ زايد والشيخ راشد الدعوة إلى حكام إمارات
الساحل الأخرى بالإضافة إلى قطر والبحرين للانضمام إلى هذه الوحدة وبعد ثلاثة أيام
من الاجتماعات المتواصلة اتفق القادة على تشكيل مجلس أعلى للقادة التسعة يكون
بمثابة الهيئة التشريعية العليا ويتولى ضمن مهامه الأخرى العمل على وضع دستور رسمي
يضع أساس للتكامل وقانونا اتحاديا على ان يضم المجلس الأعلى ثلاثة مجالس فرعية
يكون أعضاؤها مسؤولين عن الشؤون الثقافية والدفاعية والاقتصادية وقد لعب كل من
الشيخ زايد والشيخ راشد دورا رئيسيا في تحقيق الإجماع خلال ذلك الاجتماع.
وقد حظيت فكرة تأسيس اتحاد قوي ومستقر بترحيب كبير من خارج الدول التسعة وخاصة في
المنطقة العربية التي رحبت أيما ترحيب بالفكرة واعتبرتها نواة للوحدة العربية
الكبرى، وحدث في ذلك الوقت تطور مهم إذ أعلنت بريطانيا قراراها النهائي بالإنسحاب
من الخليج في 14 فبراير 1971، وتوالت اجتماعات المجلس الأعلى بعد ذلك بصورة مستمرة
حتى إذا جاء العاشر من يوليو عام 1971 عقد مجلس إمارات الساحل المتصالحة اجتماعا
وجه فيه الشيخ راشد نداءً للحكام من أجل المضي قدما على طريق الاتحاد، وفي الثامن
عشر من يوليو نفسه أي بعد مرور ثمانية أيام وقع كل من حكام أبوظبي ودبي والشارقة
وعجمان وام القيوين والفجيرة على البيان الرسمي بتأسيس دولة الإمارات المتحدة بعد
اختارت كل من البحرين وقطر إقامة دولتيهما المستقلتين وقد صادق حكام الإمارات على
الدستور المؤقت الذي حدد ملامح الاتحاد، وبموجب الدستور المؤقت تشكل المجلس الأعلى
للاتحاد وهو أعلى سلطة في البلاد والسلطات التشريعية والتنفيذية، وفي الثاني من
ديسمبر 1971 تم الإعلان رسميا عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة برئاسة صاحب
السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وصاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم
نائباً له.
وهكذا أتت الجهود أكلها وتحققت الوحدة التي كان يتطلع إليها مواطنو إمارات الساحل
المتصالحة، وأصبحت دولته الجديدة محط أنظار العالم وإعجابه، وقد اجتمع حكام
الإمارات بوصفهم أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد وانتخبوا صاحب السمو الشيخ زايد بن
سلطان آل نهيان رئيسا للدولة وصاحب السمو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم نائبا
للرئيس، بينما تم تعيين سمو الشيخ مكتوم بن راشد رئيسا للوزراء، ذلك المنصب الذي
شغله الشيخ راشد فيما بعد وأصبح الشيخ مكتوم بن راشد أحد النائبين لرئيس وزراء
دولة الإمارات العربية المتحدة.
وفي
فبراير 1972 لحقت إمارة رأس الخيمة بركب الوحدة ليصبح عدد الإمارات المنضوية في
الاتحاد سبع إمارات.
إن جهود صاحبي السمو الشيخ زايد والشيخ راشد في تأسيس دولة الاتحاد أصبحت ملكا
للتاريخ ولعل ليس ثمة من هو أفضل من صاحب السمو الشيخ زايد يستطيع تثمين ما اضطلع
به الشيخ راشد من دور في تحقيق ذلك الإنجاز حيث قال (الحق ان الشيخ راشد قام بدور
جاد ومخلص من أجل الاتحاد ... كما اتخذ مواقف اتجاه الإتحاد مثلما كنت أريد
وأتمنى).
أما جهود صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ودوره في تأسيس الاتحاد فقد حظي
بمديح خاص من سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حيث قال (لولا زايد لما قام
الاتحاد، ولولا اتفاقه مع راشد لما نجحت الفكرة ولا تحولت الأمنية إلى واقع، ومن
هنا فاتفاقهما وتعاونهما هو حجر الأساس في نمو وازدهار وتطور الاتحاد الذي لا خوف
عليه لأنه قناعة كل مواطن)
رحيله
كان الشيخ راشد شخصية عامة
محبوبة جبلت على العمل وفعل الخير، فاكتسبت احترام الجميع، ولما بلغ الثامنة
والسبعين من عمره عند نهاية ثمانينيات القرن العشرين وداهمه المرض كانت دولة
الإمارات العربية المتحدة قد تجاوزت مراحل التأسيس الأولى، وبدأت انطلاقتها القوية
نحو مستقبل أكثر إشراقاً، وشارك هو في وضع لبنات البناء الأولى مع صاحب السمو
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وإخوانهما أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام
الإمارات.
وفي الساعة العاشرة من مساء يوم الأحد الثامن عشر من ربيع الأول عام 1411هـ،
الموافق للسابع من أكتوبر عام 1990م، أسلم الشيخ راشد الروح إلى بارئها بعد أعوام
حافلة بالإنجازات والتحديات.
وما أن أُذيع نبأ الوفاة حتى عم الحزن أرجاء الإمارات العربية المتحدة كافة،
واتشحت مدنها وقراها بالسواد، وتوالت ردود أفعال قادة دول العالم وطفقت الصحف
وأجهزة الإعلام المختلفة تعدد مآثر فقيد الإمارات الكبير وتتناول سيرة حياته
ومنجزاته بالعرض والتحليل، فقد نعاه ديوان صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل
نهيان رئيس الدولة إلى شعب الإمارات العربية المتحدة والى أبناء الأمة العربية
والإسلامية، وقرر إعلان الحداد وتنكيس الأعلام لمدة أربعين يوماً وتعطيل الوزارات
والدوائر لمدة ستة أيام،
كما نعاه ديوان نائب رئيس الدولة ودواوين أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام
الإمارات، وانهمرت برقيات التعزية على صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان من
كل ملوك وزعماء الدول العربية والإسلامية والأجنبية.
وقد رثاه صاحب السمو رئيس الدولة حيث قال عن الفقيد : (كان رجلاً باراً من رجالات
هذا الوطن وفارساً مغواراً من فرسانه ورائداً من رواد وحدته وبناة حضارته، وإذا
كانت قد انتقل إلى مثواه الأخير فإن ذلك لا يعني ان يغادر ذاكرتنا أو حياتنا بل
سيبقى رحمه الله خالداً في القلوب وفي المقدمة بين الذين يزخر تاريخهم بجلائل
الأعمال).
ونقلت وكالات الأنباء والصحف المحلية والعالمية النبأ فذكرت وكالة رويترز ان الشيخ
راشد (لعب دوراً بارزاً في إنشاء الدولة الاتحادية .. وكان شخصية نشطة اعتاد ان
يستيقظ مع شروق الشمس ويجلس إلى مكتبه في الثامنة صباحاً بعد ان يكون قد أدى صلاة
الصبح).
وقالت صحيفة (الإندبندنت) البريطانية ان الشيخ راشد ترك خلفه إمارة حديثة بمعنى
الكلمة تضاهي هونج كونج أو سنغافورة.
وأبرزت محطات التلفزة البريطانية في تقارير خاصة دور المغفور له صاحب السمو الشيخ
راشد بن سعيد آل مكتوم في تأسيس مسيرة دبي الحديثة التي أقامها على العلم والنهضة
المعاصرة وفتح أبوابها لرياض العصر حتى أصبحت عاصمة تجارية
حضارية للتجارة الحرة، وأخذت مكانتها البارزة على ساحة العالم.
وقد نقلت وكالة فرانس برس الرأي القائل بأن الشيخ راشد قد رحل بعد أن بلغت الأعمال
التجارية في دبي درجة تجعلها مرشحاً قوياً يحل محل هونج كونج في القرن الحادي
والعشرين.
على أن رد الفعل الإستثنائي حقاً جاء من نيويورك ومن مقر منظمة الأمم المتحدة
بالتحديد، فقد كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة منهمكة في مداولات حول اقتراح
يتعلق بفلسطين عندما بلغها نبأ وفاة الشيخ راشد، فوقف الحاضرون في الجمعية العامة
ومجلس الأمن دقيقةً حداداً على روح المغفور له الشيخ راشد.
وقالت صحيفة الإتحاد الظبيانية في عددها الصادر يوم 8 أكتوبر 1990 إنه بوفاة الشيخ
راشد تنطوي صفحة مجيدة من تاريخ إماراتنا الحافل بالأمجاد التي سجلها قادته بوحدة
صفهم وسداد رأيه وصدق عزمهم وقوة عزيمتهم، وأضافت الصحيفة قائلة (لقد كان راشد
رحمه الله دائماً في المقدمة مع إخوانه من
البناة
الأوائل لحاضر الإمارات ومستقبلها، مستلهماً من تراثها الأصالة ومن ماضيها القدوة،
فسار هو وأخوه صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس الدولة على هدى
الأجداد يعبران جسر التواصل زاده الأمل ورفيقه الطموح وسلاحه الإعتماد على الله
وقوة الإرادة وهمه الشعب).
أما صحيفة البيان فقد علقت على ما حدث في الأمم المتحدة بعد ذيوع خبر الوفاة قائلة
: ( لم يكن غريباً أن يقف مندوبو دول العالم بالجمعية العامة للأمم المتحدة أمس
الأول (9 أكتوبر 1990) حداداً على رجل مثل الشيخ راشد، فهذا العزيز الذي فقدناه
استطاع بعرقه وكفاحه أن ينتزع احترام العالم بالنهضة الشاملة التي زرعها في دبي
لتصبح اليوم واحدة من المدن المتطورة المعروفة عالمياً بفضل خدماتها وحضارتها
وموقعها)
الخاتمة
وأخيرا وبعد هذه الجولة تعرفنا
على دور الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في بناء دبي، فهو رجل سياسي ومن
الوطنيين العظام الذين قادوا بلادهم إلى مراقي العزة والتطور.
استنتجت من بحثي أهم صفات
الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله ومميزاته الشخصية التي اتصف بها، حيث اتصف بصفات
قيادية منها قدرتة على التخطيط المستقبلي وذلك باتباعه التخطيط طويل المندى ومتوسط
المدى وقصير المدى في بناء نهضة قوية وشاملة، والقدرة على التحليل، والمقارنة
والقدرة على اختيار الوقت المناسب لتنفيذ عمل ما وقوة الذاكرة وحرية الكلمة عند
الشيخ راشد بن سعيد، كل هذي الصفات القيادية قد مكنته من قيادة الحكم، وهي صفات
رائعة وعظيمة، للشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.
استطاع الشيخ راشد أن
يتجاوز الصعاب ويقهر التحديات التي واجهته طوال سنين حكمه التي امتدت من عام 1958
حتى 1990 وعندما كان قبلها وليا لعهد دبي إبان حكم والده الشيخ سعيد بن مكتوم،
وبهذه الأهداف النبيلة استطاع الشيخ راشد بن سعيد بتوفيق من الله أن يحقق العديد
من الانجازات.
المراجع
(1) آل مكتوم، محمد
بن راشد، رؤيتي : التحديات في سباق التميز، ط2، دبي، 2006.
(2) بشير، اسكندر، دولة الإمارات العربية المتحدة
مسيرة الاتحاد ومستقبلة،ط1، بيروت، 1999.
(3) تميم ، ضاحي
خلفان؛ نصر الدين حمد ، راشد المسيرة والبناء،ط1، دبي، 1990.
http://www.alamuae.com/al-maktoum/showtopics-10.html
http://www.uaezayed.com/almakatoum/rashid1/5.htm